محمد الهاشل: البنوك ستكون ديناصورات... إن لم تواكب ثورة التقنيات
«المركزي» ينقل المصارف إلى قلب المستقبل بمؤتمر عالمي
ربما لم يبدُ محافظ بنك الكويت المركزي الدكتور محمد الهاشل في المؤتمر المصرفي العالمي الذي نظمه البنك تحت عنوان «صياغة المستقبل» تحت رعاية صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد وبحضور رئيس مجلس الوزراء بالإنابة وزير الدفاع الشيخ ناصر الصباح، متفائلاً كثيراً بمستقبل الصناعة المصرفية، وذلك في ظل التحديات غير المسبوقة التي يواجهها الاقتصاد العالمي والمتغيرات الاجتماعية والتقنية. الهاشل المحافظ الواقعي بطبعه، رأى في تشبيه بليغ أمام محافظي مؤسسات النقد والبنوك المركزية ورؤساء هيئات رقابية وتنفيذيي مؤسسات مالية، أن البنوك ستكون أشبه بالديناصورات إن لم تواكب ثورة التقنيات المالية، فيما بدا أنه يعرف جيداً شيفرة السر التي يتعين على القطاع المالي فكها لكسب معركته القائمة. وتناول المؤتمر 3 جوانب أساسية، تبدأ بعرض وجيز للتحديات الأساسية التي تعترض الصناعة المصرفية اليوم وأهمية المبادرة إلى مواجهتها، ومستقبل الصناعة والجوانب التي يتعين على المصارف التركيز عليها لتحافظ على مكانتها، وأخيراً دور المؤسسات المعنية بتمكين الصناعة المصرفية وما يتعين عليها تقديمه من دعم للصناعة المصرفية في مسيرة تطورها.وقال المحافظ «الظروف المحيطة بنا ليست اعتيادية على الإطلاق، فالصناعة المالية اليوم تقف على مفترق طرق، تحالفت عنده جملة من التحديات الداخلية والخارجية لتشكل عاصفة عتيّة، لن يعصمنا منها التشبث بنهج العقود الماضية، بل يجب على الصناعة أن تنصهر في قالب جديد ينسجم والمستقبل». وإذ أكد أهمية مواكبة التغيرات التقنية، اعتبر الهاشل أنه يتعين على البنوك خوض 5 معارك تبدأ بكسب الولاء وتمر بخلق القيمة، ورفع الكفاءة، وتعزيز المتانة واستقطاب المواهب، مشيراً إلى أن الإخفاق في واحدة منها سيجلب تبعات خطيرة كائناً ما كان حجم البنك وحصته من السوق. ولفت المحافظ إلى أنه لنجاح البنوك في صناعة الولاء عليها أن تخلق قيمة حقيقية لها ولعملائها، بالاجتهاد في تقديم خدمات تحقق لعملائها قيمة طويلة الأمد، لا أن تنظر إليهم على أنهم فرص لتحقيق أهداف المبيعات قصيرة المدى، لكن النجاح الحقيقي في كسب الولاء وخلق القيمة «لن يتحقق إلا برفع الكفاءة». وأكد الهاشل أنه على البنوك أن تولي وجهها شطر العالم الرقمي، وعليها أن تعتبر من الدروس التي تلقتها صناعات أخرى مرت بهذه التحولات، مثل صناعة الهواتف المتنقلة، مبيناً أنه في العام الماضي 72 في المئة من التواصل ما بين البنوك والعملاء عبر القنوات الرقمية، فيما 82 في المئة من العملاء لجأوا أولا إلى الإنترنت عند رغبتهم في الحصول على خدمة أو منتج جديد. وأبدى استغرابه من أن البنوك ورغم أنها تطفو على بحر من البيانات تبدو زاهدة في الاستفادة منها كما ينبغي، ضارباً مثلاً إلى ذلك بأنها لا تُغيّر البنوك طريقة تصنيف العملاء، بمراعاة أنماط سلوكهم وفرصهم للتقدم في المسار الوظيفي بدلاً من الاقتصار على النظر إلى دخلهم فقط. وقال الهاشل إن على البنوك أن تتشبث بوضعها وأن تسلك الطريق الآخر لتقديم الخدمات المالية بالتقنيات المتطورة، مبيناً أنه إذا كان هذا الطريق مزدحماً بالمنافسين إلا أنه مليء بالفرص التي ترضي العميل من تشييد نظام مالي، هو اليوم من بين الأرسخ قدماً والأقوم نهجاً في المنطقة، ينهض بدور حيوي لنمو اقتصادنا ودفع تطوره قدماً. استعرض المحافظ الدكتور محمد الهاشل التحديات الأبرز أمام الصناعة المصرفية اليوم، مشيراً إلى أنها عبارة عن أوضاع الاقتصاد العالمي وثورة التقنيات المالية الحديثة، والتغيرات المتسارعة في توقعات العملاء واحتياجاتهم. وقال الهاشل إن على جميع أطراف الصناعة المالية المبادرة لشق طريق جديد نحو المستقبل، بدلًا من التردد في طرائق الماضي المألوفة التي لن تفضي إلى الغد مهما كانت مفيدة في السابق، مبيناً أن التحديات القائمة تقتضي النظر والتفكر. وتطرق المحافظ إلى أوضاع الاقتصاد العالمي وخفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي لعام 2019 مرتين، ليبلغ 3.2 في المئة فيما يتوقع للاقتصادات المتقدمة نمواً يبلغ بالكاد 1.9 في المئة بسبب ضبابية آفاق الاقتصاد العالمي والنزاعات التجارية والسياسات الحمائية، منوهاً بأنه إذا استمرت هذه التوترات قد يعيد «الصندوق» خفض توقعات النمو تارة أخرى. ولفت الهاشل إلى أن من العناصر المؤثرة في مستقبل أوضاع الاقتصاد العالمي دور السياسات النقدية، موضحاً أن النمو الاقتصادي كان طيلة العقد الماضي مدفوعاً بجملة سياسات نقدية غير تقليدية، قادت جهود انتشال الأسواق من الأزمة المالية العالمية بتوفير السيولة وبيئة اقتراض منخفض الكلفة، إلا أن ثمن ذلك لم يكن زهيداً على الإطلاق، إذ سمحت معدلات الفوائد المنخفضة للدين العالمي بأن يحلّق فوق مستوى 246 تريليون دولار أميركي، أي ما يقارب 320 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي. وذكر الهاشل أنه فيما كانت ديون القطاع العائلي تزداد تدريجياً بمعدل 3 في المئة سنوياً، كانت الديون الحكومية وديون المؤسسات المالية والشركات تقفز إلى ارتفاعات جديدة، إذ تضاعف الدين الحكومي منذ عام 2008 من 32 تريليون إلى 67 تريليون دولار، حيث أفرطت حكومات الدول - المتقدمة على وجه التحديد - في الاقتراض خلال السنوات القليلة الماضية. ولفت إلى أن امتداد أسعار الفائدة المنخفضة أتاح لفترة طويلة، للشركات حول العالم أن تقترض بكلفة رخيصة، حتى رَبَت على الضعف ديون الشركات حول العالم خلال العشرية الماضية - بما فيها القروض والسندات – لترتفع من 37 تريليونا إلى 73 تريليوناً، متخطية بذلك الديون الحكومية. كسب الولاء ولفت الهاشل إلى أنه بالنسبة لمعركة كسب الولاء التي يتعين على البنوك خوضها، يوضح واقع الحال أن الصناعة المصرفية تتقهقر في هذه المعركة، فبين العلامات التجارية العشرين الأكبر قيمة في العالم لا يوجد اليوم أي بنك، وحتى البنوك التي كانت قبل عقد من الزمن بين العلامات العشرين الأعلى قيمة أزيحت اليوم عن مواضعها، ولذلك على البنوك أن تجهد لضمان حضورها في أذهان عملائها، وأن توليهم مزيدا من الاهتمام، وعليها أن تفكر في حلول لمشاكلهم وتقدم مقترحات لتحسين حياتهم وأن تدرك أن دورها الاجتماعي الأهم هو استدامة الرخاء للجميع. وبيّن انه ليس في إمكان البنوك اليوم أن تعوّل على ولاء العملاء كمعطى مسلم به، فقد وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة «أكسنتشر» على عملاء البنوك أن أكثر من 40 في المئة تلقوا خدمات مالية من مؤسسات غير مصرفية خلال العام الماضي. خلق القيمة وقال الهاشل أنه لضمان نجاح البنوك في كسب ولاء العملاء لابد للمصارف من خلق قيمة لعملائها على المدى الطويل، إذ عليها أن تطور خدماتها ومنتجاتها ووسائل تقديم هذه الخدمات، لتضمن تلبية احتياجات عملائها وتطلعاتهم. رفع الكفاءة وذكر الهاشل ان نجاح البنوك في كسب ولاء العملاء وخلق القيمة، لا يتأتى إلا بتحقيق مستويات رفيعة من الكفاءة، ويعني ذلك تحقيق كبرى الإنجازات بيسير الموارد، ومن سبل رفع الكفاءة لدى البنوك أن تستفيد من البيانات المتاحة لها لتطوير قدرتها على التحليل التنبؤي، لا لتطوير كفاءة العمل والتخطيط فحسب، بل أيضا للتعمق في معرفة رغبات عملائها وميولهم ومن ثم تلبيتها. وقال إن رفع الكفاءة عبر الوسائل الرقمية يحقق المنافع للطرفين: العملاء والبنوك، حيث يحصل العميل على الخدمات بوقت أقصر وكلفة أقل وجودة أعلى فيما تخفض البنوك تكاليف تقديم الخدمات بما يتراوح بين 90-80 في المئة وبهذا توفر ما يقدر بأكثر من 400 مليار دولار في السنة، ولذلك، إذا ما نجحت البنوك في زيادة كفاءتها فلسوف تجني منافع مضاعفةً، رافعةً مستوى رضا عملائها، وخافضةً نفقاتها إلى حد كبير. تعزيز المتانة واعتبر الهاشل هذه المعركة أساسية للنجاح في المعارك السابقة، حيث تستطيع البنوك توظيف التقنية لتحسين قدرتها على رصد المخاطر ومن ثم إدارتها، وذلك بتحليل الاقتصاد والأسواق وبيانات العملاء لحظياً، ولن يتعين عليها في هذه الحال انتظار تقارير المحللين من شهر إلى شهر ومن فصل إلى آخر لتدرك مدى انكشافها على العملاء أو الأصول أو الأنشطة خارج الميزانية. استقطاب المواهب وأوضح الهاشل أن الإنسان محور كل عمل، ورأس المال البشري ما يجمع كل أجزاء الصورة فيمنحها قيمتها ومعناها، موضحاً أنه بينما تمضي الصناعة المصرفية في تحولاتها الجوهرية تحتاج البنوك إلى توسيع دائرة الكفاءات التي توظفها لتشمل مواهب جديدة، تتمتع بالمهارات اللازمة للمستقبل وتتناغم مع تحولات الصناعة وتتحلى بفهم أفضل لتغيرات ميول العملاء ورغباتهم. وبيّن المحافظ أن البنوك ستحتاج إلى تطوير شامل في أساليب استقطاب الموارد البشرية وإدارتها والاستفادة منها والحفاظ عليها، وكذلك الاستثمار في موظفيها للاستفادة المثلى من خبراتهم وإبداعاتهم. التقنيات المالية وأشار الهاشل إلى أن التحدي الثاني الذي يتعين مواجهته هو أثر التقدم التقني الهائل على الصناعة المصرفية، موضحاً ان التقنيات المالية الحديثة تتطور بسرعة هائلة، ويتلقفها الجميع بذات السرعة، بيد أنها في تطورها تغير وجه الاقتصاد وتعيد صياغة عديد من الصناعات التقليدية، حيث تغير نظم الدفع الإلكتروني، وتطبيقات الهواتف الذكية، وتحليل البيانات والذكاء الاصطناعي وتقنيات سلسلة البيانات طرق عمل البنوك وتفاعلها مع عملائها. وقال «حتى إن شركات التقنيات المالية بدأت بالفعل تحل محل عديد من مؤسسات الوساطة المالية، وبحسب شركة ماكينزي فإن 5 من مجالات العمل المصرفي الرئيسية هي الأكثر عرضة لهذا التحول وهي، تمويل الأفراد الاستهلاكي، والرهن العقاري، وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والمدفوعات، وإدارة الثروات. مما يهدد 40 في المئة من عوائد البنوك بحلول 2025. وأوضح الهاشل أن من أسباب ذلك أن شركات التقنيات المالية الحديثة تقدم خدمات أعلى كفاءةً وأوفر كلفةً، فعلى سبيل المثال تقل فوائد القروض التي تمنحها بعض تلك الشركات بمقدار 400 نقطة أساس عن نظيراتها التقليدية، في حين تقدم لنا أنظمة السداد مثالًا آخر على كفاءة التقنيات المالية، إذ تختصر وقت كثير من العمليات من 5 أيام إلى أقل من 5 ثوان، وتخفض الكلفة إلى دون العُشر. لذلك، أوضح المحافظ أن البنوك تحاول الحفاظ على موقعها المتقدم في المنافسة بالتعاون مع شركات التقنيات المالية الحديثة حيناً والاستحواذ عليها حينا آخر، فبناء على تقرير حديث من «PWC»، عقد أكثر من 54 في المئة من البنوك المستطلعة شراكات مع شركات التقنيات المالية وتتوقع 82 في المئة منها أن تزيد شراكاتها في السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة. منافسة عملاقة وأشار الهاشل إلى أن ما يقلق البنوك ليس شركات التقنيات المالية الحديثة بل منافسة عمالقة التقنية مثل «فيسبوك» و»أبل» و»أمازون» و»فودافون» و»علي بابا»، حيث شرعت هذه الشركات في منافسة البنوك على تقديم الخدمات المالية، مستفيدة مما لها من قاعدة عملاء كبيرة وتكاليف متدنية للاستحواذ عبر الإنترنت، وفهم أفضل لعملائها بفضل تحليل كم هائل من بياناتهم. وهي فوق ذلك لا تتكبد التكاليف التي تثقل البنوك، ولا تخضع للرقابة. تغيرات متسارعة وأفاد الهاشل بأن التحدي الثالث هو التحول الكبير في توقعات العملاء واحتياجاتهم، فعملاء المصارف اليوم على ثقافة رقمية عالية، ويتوقعون الحصول على الخدمات المالية أنّى أرادوا، ولعل من أسباب ذلك العدد المتنامي لأبناء جيل الألفية، حيث يُقدّر أن يكون هؤلاء عما قريب أكبر شريحة من عملاء البنوك. ولفت الهاشل إلى أن نسبة أبناء جيل الألفية في الكويت ومن هم أصغر سناً تبلغ 58 في المئة من إجمالي السكان، موضحاً أن 57 في المئة منهم يبدي استعدادهم للتحول من البنوك إلى منصات مالية رقمية، بيد أنها ليست سمة قاصرة على هذا الجيل.
جريدة الراي