«فيتش»: «التشديد الكمي» يجفف تريليوني دولار عالمياً!
استنزاف السيولة بهذا الحجم يضخم الضغوط على النظام المصرفي والأسواق
يُنسب الفضل إلى البنوك المركزية في تجنب الكساد العالمي مرتين على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، مرة بعد الأزمة المالية لعام 2008، ومرة أخرى في ذروة جائحة فيروس كورونا. لكن التكتيكات التي استخدموها لاستعادة الثقة والحفاظ على تدفق الأموال من البنوك إلى الاقتصاد كانت بمنزلة تجربة عالية المخاطر - تجربة قد يكون من المستحيل التخلص منها دون زعزعة استقرار النظام المالي. اشترت البنوك المركزية ما قيمته عشرات تريليونات الدولارات من السندات الحكومية والأصول الأخرى في محاولة لخفض تكاليف الاقتراض على المدى الطويل وتحفيز اقتصاداتها. هذا الإجراء، المعروف باسم «التيسير الكمي»، خلق طوفاناً من السيولة الرخيصة وأعطى صانعي السياسات تأثيراً جديداً على الأسواق، وأطلق عليه المستثمرون عصر «المال السهل». لكن منذ أن بلغ التضخم أعلى مستوى له في جيل العام الماضي، شرعت البنوك المركزية في السعي - على نطاق غير مسبوق - لتقليص ميزانياتها المتضخمة عن طريق بيع الأوراق المالية أو السماح لها بالوصول إلى تاريخ الاستحقاق والاختفاء من دفاترها. فالتشديد الكمي، أو «QT»، من البنوك المركزية الكبرى سوف يمتص تريليوني دولار من السيولة من النظام المالي خلال العامين المقبلين، وفقاً لتحليل حديث أجرته وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية. ويمكن أن يؤدي استنزاف السيولة بهذا الحجم إلى تضخيم الضغوط على النظام المصرفي والأسواق، التي تتصارع بالفعل مع الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة والمستثمرين المتحمسين. وقال راغورام راجان، المحافظ السابق لبنك الاحتياطي الهندي، الذي قدم ورقة حول هذه المخاطر في اجتماع العام الماضي لمحافظي البنوك المركزية في جاكسون هول، وايومنغ: «هناك مخاوف من أننا في منطقة مجهولة». وأشار إلى أن «العواقب غير المقصودة» كانت على الأرجح مع استمرار التشديد النقدي. بين عامي 2009 و2022، بلغت مشتريات السندات الحكومية طويلة الأجل والأصول مثل الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري من قبل الاحتياطي الفدرالي الأميركي وبنك إنكلترا والبنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان 19.7 تريليون دولار، وفقاً لوكالة «فيتش». الآن، تعمل البنوك المركزية الأكثر نفوذاً في العالم - باستثناء بنك اليابان - على تقليص حجم ميزانياتها بشكل مطرد، ولا أحد يعرف على وجه اليقين ما سيحدث مع سحب المزيد والمزيد من السيولة من النظام المالي. وفي عام 2017، وصفت وزير الخزانة الأميركية، جانيت يلين، «التشديد الكمي» بأنه أشبه بـ «مشاهدة الطلاء يجف». بينما راجان، أستاذ العلوم المالية بجامعة شيكاغو، لا يتفق معها في الرأي. وقال راجان: «المشكلة هي أن هذا الطلب على السيولة يتصاعد، ومن الصعب جداً فصل النظام عنه»، وشبه التيسير الكمي بـ«الإدمان». إن مجرد إشارة من بنك الاحتياطي الفدرالي إلى أنه يعتزم تقليل وتيرة مشترياته من الأصول في عام 2013 أدت إلى ما يسمى بـ«نوبة الغضب التدريجي»، مع إغراق المستثمرين بالسندات والأسهم الحكومية الأميركية. وعندما حاول البنك المركزي تشديد سياسته، عبر تقليص حجم ميزانيته العمومية بين عامي 2017 و2019، سرعان ما تبعت المشاكل في بعض الأسواق. وفي سبتمبر 2019، على سبيل المثال، توقفت سوق الإقراض لليلة واحدة في الولايات المتحدة - التي تستخدمها البنوك لاقتراض الأموال بسرعة وبتكلفة منخفضة لفترات قصيرة - بشكل غير متوقع. وكان على بنك الاحتياطي الفدرالي التدخل من خلال ضخ طارئ للسيولة. في النهاية، «هناك الكثير من عدم اليقين» مع انتهاء فترة «المال الرخيص» وبدء فصل جديد، وفقاً لغاري ريتشاردسون، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا. علامات الإجهاد تتجلى الآثار المزعزعة للاستقرار لسياسة التشديد الكمي في حلقتين من ضغوط السوق الحادة على مدى الأشهر الثمانية الماضية، وفقاً لبعض الخبراء. إن عمليات البيع الحاد في السندات الحكومية البريطانية، أو السندات الذهبية، في سبتمبر الماضي - والتي دفعت الجنيه الإسترليني للانهيار، وتطلبت من بنك إنكلترا التدخل مراراً - كان سببها جزئياً المخاوف بشأن خطط رئيسة الوزراء السابقة ليز تروس لزيادة الاقتراض الحكومي، وهي أشبه بخطة بنك إنكلترا لبدء بيع الدين العام. وتوقع المستثمرون أن تؤدي زيادة المعروض من السندات الذهبية إلى انخفاض قيمتها. وقال محللو «فيتش» في تقريرهم إن الأزمة «أظهرت مخاطر الديناميكيات غير المنظمة» في أسواق السندات الحكومية خلال فترة التشديد الكمي، وينبغي أن تكون بمثابة «جرس إنذار». وقال راجان إن «QT» تساهم أيضاً في الاضطرابات في القطاع المصرفي الأميركي، مما يعرض اللاعبين الأضعف مثل بنك وادي السيليكون، الذي فشل في مارس. شهدت البنوك تضخم الودائع خلال عصر الأموال السهلة، حيث تراكمت الالتزامات بطريقة تزيد على المبالغ المؤمنة من قبل الحكومة الفيدرالية. ثم بدأت البنوك المركزية في سحب السيولة من النظام المالي. وهذا يخلق عدم تطابق خطير إذا طالب المودعون فجأة باستعادة أموالهم. والأسوأ من ذلك، أن العديد من البنوك لديها ثغرات كبيرة في ميزانياتها لأن البنوك المركزية قامت في الوقت نفسه برفع أسعار الفائدة. وأدت المعدلات المرتفعة إلى تآكل قيمة حصة كبيرة من استثمارات البنوك، بما في ذلك السندات الحكومية طويلة الأجل التي كان يُنظر إليها على أنها آمنة. وقال راجان: «نصيحتي كانت باستمرار، » لا يجب أن تتجه البنوك المركزية للتشديد الكمي قبل أن تقوم بترتيب أسعار الفائدة «. «القيام بالأمرين معاً في نفس الوقت يجعل الأمور أكثر تعقيداً وقد يؤدي إلى حدوث مشكلات». ما يمكن أن يحدث؟ في الوقت نفسه، يقول محافظو البنوك المركزية إنهم يتخذون نهجاً تدريجياً ويمكن التنبؤ به تجاه التشديد الكمي لتقليل الاضطراب. بدوره، أدلى ديف رامسدن، نائب محافظ الأسواق والمصارف في بنك إنجلترا، بشهادته أمام البرلمان البريطاني يوم الخميس قائلاً «ما حاولنا القيام به هو وضع العلامات على خريطة الطريق».
جريدة الجريدة