«اقتصاد الظل» يبدد جهود صانعي السياسات النقدية

● قطاع استثماري مواز خارج الاقتصاد الرسمي يعرقل محاولات السيطرة على معدلات التضخم.
● العملات الرقمية و«NFT» والمحتوى الرقمي أدوات استثمارية قلبت موازين النقد وأعادت صياغة الملكية والاستثمار والأصول.
● تحقق عوائد مالية معتبرة وتعظم القوة الشرائية وتعجز أمامها إغراءات الفائدة المرتفعة وليست ذات اعتبار لدى البنوك المركزية.

عادة ما يساند «اقتصاد الظل» الاقتصاد الرسمي للدول، ويحافظ على التوازن في أسعار السوق، حين يتعلق الأمر بالأنشطة التي تضم وحدات إنتاج وعمالة ومخرجات، إلا أننا هنا أمام «اقتصاد ظل» جديد يسعى إلى الربح فقط دون الاكتراث بآثاره الجانبية على الاقتصاد والمجتمع.

مع القرار الأخير للاحتياطي الفدرالي الأميركي برفع سعر الفائدة 75 نقطة، لأول مرة منذ 28 سنة، إلى نطاق بين 1.50 و1.75 في المئة، وما استتبعه من قرارات البنوك المركزية الرائدة الأخرى في العالم، وعلى خطاه، برفع معدلات الفائدة الخاصة بها، لمحاولة كبح جماح معدلات التضخم الحادة، يبدو أن توقعات الخبراء والمؤسسات الاقتصادية برفع «الفدرالي» أسعار الفائدة 7 مرات عام 2022، لتصل إلى 3.4 في المئة بنهاية هذا العام، وإلى 3.8 في المئة في 2023، في طريقها إلى التحقق.

ربما أيضا، قد تصدق التكهنات بأن البنوك المركزية لن تواجه، فقط، خطر أن يصبح التضخم جزءا لا يتجزأ من توقعات المستهلكين والأعمال فحسب، بل يجب أيضا أن تأخذ في الاعتبار السلوك الحالي للمستهلك والسوق في قرارات سياساتها النقدية، وإلا فلا معنى لأي محاولة للسيطرة على التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة.

والأمر، هنا، لم يعد يتعلق، فقط، بالعوامل الاقتصادية والجيوسياسية النمطية، والمتمثلة في ارتفاع الأسعار المصاحب لانفتاح ما بعد الجائحة وبدء المستهلكين في الإنفاق بمستويات مرتفعة، أو الارتفاع الحاد في تكاليف النفط والغاز والسلع الأساسية الناتج عن الصراع الروسي الأوكراني في شرق أوروبا، بل باتت الاقتصادات تعاني تخمة أموال لدى قطاع عريض من المواطنين دخلت محافظهم وحساباتهم من أنشطة اقتصادية غير حقيقية، بعد أن أصبح الثراء سهلا وسريعا، حتى أصبحنا أمام ثروة متكدسة في يد مجموعة من الأفراد، عبر عمل إذا تم تقدير قيمة مخرجاته، بمعايير الاقتصاد البديهية، فلن تزيد على صفر، في حين حقق هذا العمل عائدا معتبرا، غير مسجل في حسابات الناتج المحلي للدول، وغير مدرج في الدخل القومي، ولا يقع تحت المظلة الرسمية للاقتصاد، وذلك بالتحديد هو الاقتصاد الموازي غير الرسمي أو «اقتصاد الظل».

وعلى الرغم من أن هذا النوع من الاقتصاد «اقتصاد الظل»، عادة ما يساند الاقتصاد الرسمي، ويحافظ على التوازن في أسعار السوق، حين يتعلق الأمر بالأنشطة التي تضم وحدات إنتاج وعمالة ومخرجات، فإننا هنا أمام «اقتصاد ظل» جديد يسعى إلى الربح فقط دون الاكتراث لآثاره الجانبية على الاقتصاد والمجتمع، ويضم أنشطة استثمارية قادرة على تحقيق أرباح تتجاوز، في كل الأحوال، ما يمكن أن تحققه فوائد الودائع البنكية التي تسعى البنوك المركزية إلى تحجيم حركة الأموال للسيطرة على التضخم عبر رفعها.

ونتحدث هنا عن نوع جديد من الاقتصاد، قلب موازين النقد في العالم، ولم يعد صياغة مفهوم الملكية والاستثمار، فقط، بل والأصول، للدرجة التي يبدد معها جهود صانعي السياسات النقدية في السيطرة على معدلات الإنفاق، ومن ثم معدلات التضخم، كالعملات الرقمية، على سبيل المثال، والتي تجاوز حجم سوقها بنهاية العام الماضي 3 تريليونات دولار، قبل أن تتراجع خلال الانهيارات الأخيرة إلى نحو 900 مليار دولار حسب بيانات شركة CoinGecko.

ومع التراجع الهائل في سوق العملات الرقمية، انتعش سوق الرموز غير القابلة للاستبدال NFT، ورغم صعوبة تقدير حجم الأموال المتداولة فيه، فإن بعض التقديرات أشارت إلى أنها تجاوزت 40 مليار دولار بنهاية 2021، كما قدرت مؤسسات اقتصادية أن يتجاوز حجم تعاملاتها 400 مليار بحلول عام 2025.

وإضافة إلى صناعة المحتوى الرقمي على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يصعب حصر حجم عوائدها المالية، إلا أن عددا من المؤسسات قدرتها بملايين الدولارات، وآخرها تقرير صادر عن وكالة بلومبرغ الإخبارية، ذكرت فيه أن موقع «يوتيوب»، أحد الأذرع الإعلامية لشركة غوغل، دفع ما يزيد على 30 مليار دولار لصانعي المحتوى خلال السنوات الثلاث الماضية، من عوائد الإعلانات والترويج والخدمات الأخرى.

إذن، نحن أمام تدفقات نقدية هائلة، تحققها أدوات استثمارية موازية، خارج القطاع الاستثماري الرسمي والتقليدي، توفر أرباحا معتبرة لعدد كبير من الأفراد، وتعجز أمامها إغراءات رفع معدلات الفائدة، مهما بلغت، ومن ثم تعظيم قوتهم الشرائية، لكنها في النهاية ليست ذات اعتبار لدى صناع السياسات النقدية، ما يعني أن البنوك المركزية تتخذ القرارات المتعلقة بمكافحة التضخم دون مراعاة أحد أهم مسبباته الرئيسية.

وإعمالا، ليس أمام هؤلاء الصناع إلا أخذ هذا المسبب بعين الاعتبار، عبر تقنين هذه الاستثمارات وتوطينها ضمن الاقتصادات الرسمية للدول، فمن ناحية تدرج ضمن البيانات التي يستند إليها صانعو السياسات النقدية في قراراتهم، ومنها بالطبع القرارات المتعلقة بتحديد أسعار الفائدة ومعالجة التضخم، ومن ناحية أخرى تخضع للمطالبات الضريبية، فيستفيد منها الاقتصاد الرسمي، إضافة إلى أن «إمساكها» من قبل سلطات رقابية وتنظيمية يمكّن من السيطرة على قيمها، وتقليص المكاسب المبالغ فيها، ما يحجّم القوة الشرائية لروادها، ومن ثم السيطرة على معدلات التضخم الحادة، والتي قد تفضي، في هذه الحالة، إلى كارثة اقتصادية حقيقية، وهي ما يعرف بالركود التضخمي، حيث لا نشاطا اقتصاديا حقيقيا، ولا نموا اقتصاديا، تقابله ارتفاعات هائلة في الأسعار، ناتجة عن عمل ليست له قيمة مضافة على الإطلاق.

جريدة الجريدة.