تحليل إخباري: البنوك المركزية متهمة أحياناً وبريئة غالباً
يعد البنك المركزي إحدى أهم «الأدوات» في السياسة النقدية والاقتصادية لأي دولة بوظيفتيه الرئيسيتين، وهما مراقبة المعروض النقدي والبنوك وتحديد أسعار الفائدة بما يضمن تحقيق الكثير من الأهداف المتعلقة بمستويات التضخم والاستثمار والادخار والاستهلاك، فضلاً عن ملاءمة سعر صرف العملة للسياسات الاقتصادية للدولة. تعاني الكثير من الدول من صعوبات جمّة في هذا الإطار، وعلى سبيل المثال فإن تركيا، التي شهدت إقالة محافظ البنك المركزي مؤخراً، لديها معدل فائدة %24 لمواجهة الحد من ظاهرة الأموال الساخنة التي آذت الاقتصاد كثيراً وأدت لخسارة الليرة التركية لـ%30 من قيمتها خلال عام واحد. وتظهر معضلة البنوك المركزية هنا، فمع رغبة السلطات في معدل فائدة أقل كثيراً، بما يشجع على الاقتراض، وبالتالي الاستثمار ويخرج الاقتصاد من حالة من الركود، إلا أن معدلات الفائدة المرتفعة تعد سبباً لـ «أموال المضاربات» ضمن النظام المصرفي بما يحافظ على سعر الصرف، ويحفظ للصادرات قيمتها ويمنع التضخم بزيادة قيمة الواردات. وأحد أهم العوامل التي ينبغي على البنك المركزي لأية دولة الانتباه لها مراعاة حجم صادرات وواردات الدولة، فالبنك المركزي الصيني قلص قيمة اليوان في نهاية 2016 بحوالي %4 في مواجهة الدولار، بما أنتج زيادة للصادرات بنسبة %8 في العام التالي. ربما يكون لدى بكين رفاهية خفض سعر العملة بسبب زيادة الصادرات على الواردات، غير أن غالبية دول العالم تميل بنوكها المركزية للاحتفاظ بعملة «قوية نسبياً» بسبب غلبة الواردات على الصادرات، بما يهدد الاقتصاد بضغوط تضخمية حال خفض قيمة العملات، خاصة إن لم يكن الخفض مؤثراً على زيادة الصادرات بنسب تزيد على نسبة خفض العملة. استقلالية وتكامل لذلك تشكك «فوربس» في تقديرات ترامب حول إمكانية زيادة معدلات النمو الأميركي بما نسبته %1 إذا ما «أطاعه» البنك الفدرالي بخفض أسعار الفائدة، بل ترى في هذا خلق المزيد من الضغوط على القطاعات الأميركية التي يعمل العديد منها بالطاقة القصوى بالفعل. ووفقاً لـ«إيكونوميست»، فإن خفض الفائدة بـ0.25 %0.5 لم يكن ليزيد النمو الأميركي إلا بنسبة %0.1 فحسب، في ظل ما وصفته المجلة قبل فترة بـ«المحرك مرتفع الحرارة» للاقتصاد الأميركي، بما يعني أن موقف المركزي يبدو محافظاً على نمو أكثر استدامة للاقتصاد الأميركي. ولذلك، وفي غالبية الدول المتقدمة، تضمن القوانين حماية كبيرة لمدير البنك المركزي من الحكومة، بأن تجعله محصناً ضد الإقالة فور اختياره حتى يكمل فترته، حتى إن جيروم باول، رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي، جاهر بمعارضته لسياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاقتصادية، وأكد أنه لن يستقيل إذا طلب الأخير منه ذلك. وتضرب «فورين بوليسي» مثلاً بسياسات بنك الاحتياط الفدرالي إبان الكساد الكبير ثلاثينات القرن الماضي في «التكامل»، حيث حافظ البنك على سعر فائدة %6 خلال أول عام من الكساد الكبير، ثم بدأ في خفض سعر الفائدة تدريجياً. كيف تتحقق الفائدة المرجوة؟ وصل معدل الفائدة مع نهاية الكساد الكبيرة عام 1933 إلى %2.5، وترافق الخفض التدريجي للفائدة مع سياسات واضحة من الإدارة الأميركية حينها لتشجيع الاستثمار في مجالات البنية التحتية، وبرامج أخرى لاستبدال الواردات بالمنتجات المحلية. وجعل لخفض الفائدة الأثر المرجو في تشجيع الاستثمار دون زيادة الضغوط التضخمية أو تشجيع الأموال الساخنة (التي لم تكن بنفس خطورتها في المرحلة الحالية بطبيعة الحال)، وأصبح خفض سعر الفائدة هنا «منطقياً» و«فعّالاً» خلافاً للحال في العديد من التجارب الأخرى. ففي حالة الأزمة التي تعانيها الأرجنتين منذ سنوات لم يكن رفع البنك المركزي لسعر الفائدة حتى مستوى %62.5 (وصلت إلى %80 قبل عامين) كافياً لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، في ظل ما يصفه البنك الدولي بحاجة البلاد للتوسع في البنية التحتية لجذب المزيد من الاستثمارات. والأزمة التي تواجه البنوك المركزية هنا هي سعيها الى استخدام أسعار الفائدة وسعر الصرف والمعروض النقدي لتحقيق أهداف، كثيراً ما تكون متعارضة، مثل زيادة الصادرات مع تجنب التضخم، وزيادة الاستثمارات على حساب الادخار التقليدي من دون هروب الأولى، لتبقى دائماً «المتهم الأول» لفشل الاقتصادات بغض النظر عن استحالة تحقيق النمو والازدهار الاقتصاديين باستخدام الأدوات المالية وحدها. (أرقام)
المصدر: جريدة القبس