البورصة ليست مرآة حقيقية للاقتصاد!
«المؤكد أن اقتصادنا يشهد حالة من الرواج غير المسبوقة في تاريخه، والدليل على ذلك هو وصول أسواق الأسهم إلى قيم قياسية غير مسبوقة في تاريخها تجاوزت كل ما سبق، بما أضاف لنا تريليونات الدولارات». مرآة الحاضر أم المستقبل؟! هذا ما أكده الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سلسلة من التغريدات على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، والتي رصد فيها الوضع الاقتصادي في بلاده، بما فيه وصول مؤشر «داو جونز» إلى 27 ألف نقطة لأول مرة في تاريخه، مثيرًا التساؤل عما إذا كان الرواج في البورصة يعني بالضرورة رواجًا اقتصاديًا أم لا. فالبورصة دائمًا ما عُرفت بأنها «مرآة» للاقتصاد، فبانكماشه تتراجع وبنموه تزدهر، ولكن هذا لم يعد الوضع في كثير من الحالات. ويرجع ذلك إلى العديد من الأسباب، لعل من بينها ما تشير إليه دراسة لجامعة «يل» حول «تأثير التوقعات»، بمعنى أن سوق الأسهم كثيرًا ما تكون حساسة للتغيرات وتستبقها، وهو ما حدث إبان الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمان على سبيل المثال. فخلال الأزمة التي استمرت 3 أعوام تكبدت مؤشرات الأسهم خسائر ضخمة، ولكن %94 من الخسائر التي تكبدتها وقعت خلال عامي 2007 و2008، على الرغم من أن عام 2009 كان ذروة الأزمة قبل الخروج منها، وذلك لأن انخفاض أسعار الأسهم جاء سريعًا مع بدء الأزمة المالية في التشكل. وكذلك، فإن عام 1932، الذي كان يعد ذروة أزمة الكساد الكبير، شهد عودة مؤشرات الأسهم الأميركية إلى النمو الموجب، بعد أن استمرت لثلاثة أعوام في نمو سالب، بما يعكس بدء تعافي الأسواق المالية قبل الاقتصاد بعام كامل، وهو ما يشير إلى أنه في كثير من الأحيان تكون أسواق الأسهم بمنزلة «صورة لمستقبل الاقتصاد» وليس مرآة لحاضره. الاقتصادات المركزية ومن بين المؤشرات المهمة للغاية التي تجعل البورصة «مرآة» غير حقيقية للاقتصاد في بعض الأحيان، هو سيطرة بعض الدول على البورصة، ففي الصين لم تتراجع البورصة الصينية إلا بمقدار %1.7 إجمالاً منذ اندلاع الحروب التجارية مع الولايات المتحدة وذلك على الرغم مما تشكله من مخاوف حقيقية على مستقبل الاستثمار.فالحكومة الصينية تعتمد على وجود بعض الشركات الحكومية التي تضارب في البورصة من أجل الإبقاء عليها في مستويات مرتفعة حتى مع التذبذبات التي تتعرض لها، وهو ما لا يمكنها فعله إزاء مستويات التصنيع التي تراجعت بالفترة نفسها %4، وتراجعت الصادرات الصينية %1.7 في شهر يونيو الماضي فحسب، وفقًا لبيانات بكين. وتشكل الحالة الصينية، والمشابهة لحالة بعض الدول التي تتدخل حكوماتها بكثافة في الاقتصاد، الحالة المعاكسة للحالة الأولى إذ لا تستجيب الأسواق المالية إلا بعد أن تصبح الحكومات غير قادرة على التدخل في البورصات بسبب تراجع فاعلية ما لديها من أدوات بسبب ضعف الاقتصاد. وهناك الكثير من المؤشرات الكلية للاقتصاد تعمل بشكل منعزل إلى درجة كبيرة عن البورصة، ومن ذلك مؤشر التشغيل، فعلى سبيل المثال تقدر «فوربس» أن الشركات الرئيسية لمؤشرات الأسهم الأميركية الرئيسية يعمل بها ما يقل عن %14 فقط من قوة العمل الأميركية، ولذا فإن انتعاش تلك المؤشرات لا يعني بالضرورة أبدًا انتعاشًا عامًا في التوظيف على المستوى الأميركي. أسعار الفائدة والانهيار الكبير وهناك بعض الحالات المتعلقة بالانخفاض الشديد في أسعار الفائدة، حتى تقترب تمامًا من مستوى الصفر، أو حتى تصبح سالبة أحيانًا، فهنا قد تنتعش أسواق الأسهم بشدة بسبب «عدم جاذبية» الادخار في البنوك أو الاستثمار في السندات، فيصبح الاستثمار فيها رغم مخاطره الكبيرة، هو البديل المُتاح، بما يسهم في انتعاش سوق الأسهم. والمثال على ذلك هو انتعاش سوق الأسهم السويسري وارتفاع مؤشره العام بنسبة فاقت %40 خلال السنوات الخمس الأولى من الألفية الثالثة بسبب انخفاض معدلات الفائدة، حتى أصبحت سالبة، بما جعل سوق الأسهم جاذبة للاستثمار بعيدًا عن سوق السندات. وفي بعض الحالات يكون «الانهيار الكبير» للاقتصاد سببًا في الانفصال الشديد بين أسواق الأسهم والاقتصاد، حيث يتسبب انهيار اقتصاد دولة ما في اعتبار سوق الأسهم بمنزلة «الملجأ الأخير» للكثير من المستثمرين. ولعل حالة فنزويلا تعد مثالا صارخا على هذا الأمر، حيث ارتفع مؤشر «بورصة كاراكاس» بنسبة 200 ألف في المئة، غير أن هذا الصعود لم يكن حقيقيًا لأنه جاء مقيمًا بالعملة الفنزويلية (بوليفار) وليس بالدولار، هذا فضلا على الارتفاع الكبير للتضخم. وعلى الرغم من هذا الانهيار وفقدان البورصة لـ%50 من قيمتها الحقيقية -إذا أخذنا التضخم في الحسبان- فإن نسبة التراجع في قيمة الأصول في البورصة تقل بدرجة كبيرة للغاية عن التراجع في قيمة الأصول الأخرى، مثل العقارات، التي يقدر التراجع في قيمتها بحوالي %90. ويرجع السبب وراء هذا إلى أن أصحاب الثروات، الذين لا يتمكنون من تحويلها لذهب أو عملات أجنبية، يرون في البورصة ملجأ مقبولا في مثل تلك الظروف التي تشهد ضغوطا تضخمية استثنائية، حيث يسهل تسييلها وغالبًا ما لا تتراجع عن قيم دنيا مُعينة، ولذا يتنافس عليها بعض الأثرياء وتقل نسبة التدهور فيها عن بقية مفاصل الاقتصاد. تجزئة البورصة كما أن تقسيم البورصة إلى قطاعات، كالتكنولوجيا والعقارات وغيرهما، يجعل تأثر البورصة مختلفًا عن الاقتصاد بشكل عام، فالبورصة البريطانية شهدت تراجعًا فوريًا عند إقرار «بريكست» واستمرت آثار هذا التراجع بسبب تأثر قطاعي العقارات والبنوك تحديدًا في المملكة المتحدة. ويأتي حجم المتعاملين في البورصة ليزيد من اختلاف «مرآة» البورصة عن واقع الاقتصاد في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال فإن %92 من أغنى %10 من العائلات الأميركية لديها استثمارات في البورصة بينما تقل النسبة لتصل إلى %3 فحسب في أفقر %50 من الأميركيين. ويعكس هذا اختلافًا كبيرًا في مظاهر «القلق» والاقتصاد السلوكي بين الطبقتين، فارتفاع كبير في مستوى الأسعار العام لن يثير قلق الفئات الأغنى أو يدفعها لتغيير أساليبها الاستثمارية، لذا فإنه قد لا يؤثر كثيرًا على «النظرة» لأسواق الأسهم، وبالتالي لأداء المتعاملين الرئيسيين ومستويات الأسهم. وفي المقابل، فإن التغير في أسعار العقارات، أو التطورات في مجال السيارات أو التكنولوجيا ستكون أعمق تأثيرًا لانعكاسها مباشرة على الفئة الأشد استثمارًا في البورصة بطبيعة الحال. ولهذا يرى محللون كُثر أن البورصات غالبًا ما لا تلقي بالا لبعض المؤشرات الهامة للغاية، مثل مستوى ثقة المستهلك، أو بيانات الإنفاق الاستهلاكي، على الرغم من أن كليهما يعدان من أهم مؤشرات الاقتصاد ككل، وعلى الرغم من ذلك تهتم أسواق الأسهم بمؤشرات أخرى «أكثر آنية». ولعل هذا يبرر سبب الانهيارات الكبيرة التي تحدث في البورصات في الكثير من الأحيان عندما تفضل أن تكون مرآة حقيقية للاقتصاد، بما يجعل تأثير المؤشرات الاقتصادية الكلية يظهر مفاجئاً وينعكس على هيئة تراجع سريع وخاطف في مؤشرات الأسهم المختلفة. (أرقام)
المصدر: جريدة القبس