اكتتاب «شمال الزور» و«البورصة» ... تحت المجهر

لم يمر على الكويت منذ الأزمة المالية العالمية عام 2009 أي طرح لاكتتاب عام لكيانات مشاريع كبرى، كالتي حدثت سابقا مع بنوك إسلامية وشركات اتصالات، مثل بنك بوبيان وبنك وربة وشركة فيفا، ولعل ذلك يرجع إلى تخوف المستثمرين من الأسواق المالية بُعيد انهيار البنوك والشركات في أجزاء من العالم جراء الأزمة المالية، وانعكاساتها على القطاع المالي والاستثماري المحلي من خسائر، نتيجة تعثر الديون وانخفاض قيمة الأصول الاستثمارية لا سيما المرهونة منها. أضف إلى ذلك عدم وجود جهاز حكومي متخصص – آنذاك – يعنى بالإشراف والرقابة على أنشطة الأوراق المالية بأنواعها حتى تأسيس هيئة أسواق المال، حيث كانت وزارة التجارة والصناعة ممثلة بلجنة سوق الكويت للأوراق المالية هي المهيمنة على بورصة الكويت. ناهيك أن صغار وكبار المستثمرين بدؤوا بعد الأزمة العالمية بتحويل السيولة النقدية إلى الاستثمار العقاري طويل الأجل، اقتناعاً بالمقولة التقليدية أن: (العقار يمرض لكن ما يموت)، في ظل وجود فرص استثمارية واعدة قليلة المخاطر في دول الخليج وتركيا، ذات عوائد مالية منخفضة نسبيا. وبعد كل ما سبق، ومع تحرك عجلة الإصلاحات الاقتصادية للدولة والتي تمخضت عن إنشاء هيئة أسواق المال، متضمنة لشروط وأنظمة إصدار وتداول وإدراج الأوراق المالية بأنواعها، وفق نظام دقيق لحوكمة الشركات والمؤسسات المالية. كذلك إنشاء هيئة مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتي مكنت حسب القانون رقم 116 لسنة 2014 من تحويل المواطن من أجير إلى شريك، عن طريق طرح 50 في المئة من رأسمال تلك المشاريع إلى أسهم لاكتتاب المواطنين الكويتيين. بدأ قطاع الأوراق المالية يتنفس الصعداء من جديد، مع كثرة الحديث عن طرح اكتتابات عامة لمشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فهل يعيد كل هذا الثقة من جديد لسوق الأوراق المالية ؟ لماذا الأوراق المالية؟ شخصياً لست من أولئك الذين يشجعون على الدخول في المضاربات بالأسهم في السوق الثانوي (Secondary Market)، فالمسألة تحتاج إلى وعي مالي عميق أولا، ودراية كبيرة في الوضع المالي والمحاسبي للشركات المدرجة وفق البيانات والقوائم المالية لها، فالقيمة السوقية للسهم (Market value) لا تعكس بالضرورة القيمة الدفترية للسهم (book value) والتي هي أكثر واقعية بالنظر إلى الحالة المالية للكيان المؤسسي، من خلال الدفاتر المحاسبية للشركة سواء بالمركز المالي أو قائمة الدخل أو قائمة التدفقات النقدية وغيرها. ثانيا، أن البورصات بعد الأزمة المالية العالمية غير مشجعة للمضاربات، رغم ما حققته بورصة الكويت من قفزات نحو ترقيتها إلى مصاف الأسواق المالية الناشئة، عبر تصنيفها لسوق ناشئ في جميع المؤشرات: مورغن ستانلي (MSCI) ومؤشر فوتسي (FTSE) ومؤشر داو جونز (S&P Dow Jones). لكن بالمقابل، ظهر طرح الاكتتابات العامة من جديد من خلال الأسواق المالية الأولية (Primary Market)، وهي أسواق الاستثمار الحقيقي لا الاستثمار المالي، وأسواق إصدار لا أسواق تداول. في ظل ما تشهده منطقة الخليج من ركود في أسواق العقار، نتيجة السياسات المالية الانكماشية سواء بفرض ضرائب القيمة المضافة أو تقليل الإنفاق الحكومي، و في ظل الاضطرابات السياسية التي تعصف في المنطقة سواء في الملف الإيراني أو اليمني أو غيرها من الملفات السياسية المقلقة للاستثمار طويل الأجل. برزت تلك الاكتتابات العامة أو الخاصة كنتيجة للإصلاحات الاقتصادية التي انتهجتها دول الخليج ومنها دولة الكويت، حيث تسعى الاكتتابات – بما فيها اكتتابات زيادة رأس المال - إلى جذب رؤوس الأموال من المستثمرين، عن طريق طرح الأوراق المالية من أدوات الملكية كالأسهم، أو أدوات الدين كالسندات والصكوك. الاكتتابات العامة (IPO): يعد الاكتتاب العام (Initial Public Offering) عملية جذب لرأس مال الشركة أو المؤسسة من خلال إصدار أوراق مالية بالقيمة الاسمية (Nominal value) للسهم، وقد تكون القيمة الاسمية مضافة إليها علاوة الإصدار أو بدون علاوة إصدار. ومن خلال ما ذكرناه من المعطيات الاقتصادية السابقة، فإن الاستثمار طويل الأجل (Long-term investment) في أسهم الإصدار أو أسهم الاكتتابات العامة هو أحد الاستثمارات التي ستشهدها المنطقة خلال الفترة القريبة القادمة، ويمكن حصر خصائص الاستثمار في أسهم الإصدار بالآتي: القيمة الاسمية لأسهم الشركات في الكويت (100) فلس فضلا عن علاوة الإصدار، وبالتالي فاحتمالية الحصول على أرباح رأسمالية من القيمة السوقية للأسهم عند التداول – بعد طرحها في البورصة –واردة بأعلى من القيمة الاسمية. الاستثمار طويل الأجل في أسهم الاكتتاب يمكن المستثمر من جني عوائد وتوزيعات مالية ونقدية لأسهم تلك الشركات وذلك بعد تشغيلها وتوسعها. في حال انخفاض معدل سعر الفائدة – مع افتراض ثبات العوامل والمحددات المؤثرة الأخرى – فإن القيمة السوقية للأوراق المالية ومنها الأسهم ترتفع، وهذا يحفز الاستثمار المالي في الأسواق عموماً. يمثل الاستثمار طويل الأجل في الأسهم المكتتبة أحد وسائل التحوط ضد مخاطر التضخم وانخفاض القوة الشرائية للعملة على المدى البعيد، من خلال تحويل الأصول النقدية إلى أصول عينية أو مالية كالأسهم. ومع ذلك كله، فإن تملك أسهم الإصدار الجديد لا يخلو من مخاطر متعددة، كمخاطر السوق و مخاطر سياسية وغيرها من المخاطر التي تنتاب الاستثمار بشكل عام. الاكتتاب والبورصة تابعنا كغيرنا ما تناقلته وسائل الإعلام الرسمية من إعلان هيئة أسواق المال وهيئة مشاريع الشراكة عن طرح كل من شركة شمال الزور لتوليد الطاقة وتحلية المياه، وشركة بورصة الكويت للأوراق المالية للاكتتاب العام. وبالإشارة إلى ما ذكرناه من مقدمات تحليلية اقتصادية، وبعيدا عن تفاصيل نشرة الاكتتاب وحيثيات إصدار الأسهم ودمجها وتخصيصها ونصيب المكتتب من الأسهم ورأس المال المدفوع لكلتا الشركتين، فإن طرح شركة شمال الزور وشركة بورصة الكويت يتضمن ركائز استثمارية أبرزها: دخول حكومة دول الكويت ( ممثلة بالهيئة العامة للاستثمار والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية) بنسبة 10 في المئة يعطي ثقة لصغار المستثمرين، من جهة كونها حصة لا بأس بها في هذا الكيان، باعتبارها أصولا سيادية تملكها الدولة عبر ذراعها الاستثمارية. تمثل تلك الشركات مشاريع بنية تحتية ومرافق حيوية للدولة، كتوليد الطاقة وتقطير المياه وبورصة للأوراق المالية، حيث إن الاستثمار في هذا النوع من المشاريع يعد استثمارا آمنا نسبيا، مقارنة بالاستثمار في المشاريع الرياضية أو التكنولوجية. اقتصاد الإسلامي نصت اللائحة التنفيذية لقانون هيئة أسواق المال عن تشكيل المجلس الاستشاري للرقابة الشرعية، حيث ذكرت المادة رقم (6/‏‏‏‏‏4/‏‏‏‏‏1) والمادة رقم (6/‏‏‏‏‏4/‏‏‏‏‏2) من كتاب (هيئة أسواق المال): آلية إنشاء المجلس وعمله بالإضافة لطبيعة أعضائه. وبالإشارة إلى المادة رقم (6/‏‏‏‏‏4/‏‏‏‏‏5) من ذات الكتاب، والتي فصلت في اختصاصات المجلس الاستشاري للرقابة الشرعية، حيث ذكرت الفقرة رقم (3) الآتي: إبداء الرأي والفقرة (5): (إبداء الرأي بشأن تطبيق المعايير والقرارات والنظم الشرعية المقرة لتنظيم عمل الأشخاص المرخص لهم) أعتقد أن منهجية إبداء الرأي الشرعي في تلك القضية تتطلب تقسيمها وفق ثلاثة اتجاهات: الإصدار (الاكتتاب العام)، الإدراج، التداول. أولا: الإصدار ما يميز اكتتابي الزور والبورصة عن غيرهما أنهما لكيانات تجارية تأسست وباشرت عملها ونشاطها، بخلاف كثير من حالات سابقة لاكتتاب أسهم تكون لشركات تحت التأسيس، وفي هذا الاختلاف خلاف في التكييف الفقهي للإصدار. ولعلنا هنا نورد قرارات المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI)، كونها أحد أشهر المعايير الشرعية للمعاملات المالية الإسلامية عالميا وأكثرها اعتمادا، فقد نص المعيار الشرعي رقم (21) الخاص بالأوراق المالية ضوابط شرعية في إصدار وتداول الأسهم. حيث يجوز إصدار الأسهم للاكتتاب العام إذا كان الغرض الأساسي للشركة مباحاً، وهذا بلا شك ينطبق على اكتتاب شركة شمال الزور واكتتاب شركة البورصة، أما إصدار الأسهم لغاية زيادة رأس المال الشركة، فيجب أن يكون بالقيمة السوقية العادلة أو بالقيمة الدفترية من واقع السجلات المحاسبية للشركة، بالنظر إلى موجودات ومطلوبات الشركة، وهذا يكون من خلال قيمة السهم أو زيادة علاوة الإصدار. ثانيا: الإدراج لا أجزم أن هناك ثمة ضوابط شرعية تتعلق بإدراج أسهم الشركات في السوق الثانوي، باستثناء أن تكون الشركة المدرجة بالسوق قد تأسست بالفعل وباشرت عملها، لأن التكييف الفقهي لأسهم الشركات تحت التأسيس أنها نقود، وعليه فلا يجوز إدراجها وبالتالي تداولها، لأنه يعتبر من قبيل بيع النقد بالنقد، فلا يجوز إلا بمثل القيمة مع التقابض الكامل دون تأجيل، كونه من جنس واحد وهو الدينار الكويتي. أما الشركات التي تأسست بالفعل وباشرت عملها ونشاطها فتكيف أسهمها على أنها حصة شائعة من رأس مال الشركة، وبالتالي تأخذ حكم الأغلب سواء أكانت أصولا أو نقودا أو ديونا أو غيرها، علما بأن هذا الحكم ليس محل اتفاق بين الفقهاء المعاصرين. ثالثا: التداول تناول المعيار الشرعي رقم (21) أحكام تداول الأسهم، سواء بغرض المتاجرة أو الاستثمار أو حتى بغرض المساهمة لأجل أسلمة الشركة، وقد أشارت الفقرة رقم (3/‏‏‏‏‏4) من المعيار شروط تداول الشركات مباحة النشاط لكنها تتعامل بالربا أحيانا، ومن أبرز تلك الشروط: ألا ينص النظام الأساسي للشركات أن من أهدافها التعامل بالربا أو أيا من المحرمات، كما أن من الشروط ألا يبلغ إجمالي المبلغ المقترض أو المودع بالربا 30 في المئة من القيمة السوقية لمجموع أسهم الشركة، بإضافة ألا يتجاوز الإيراد الناتج من حرام نسبة 5 في المئة من اجمالي ايرادات الشركة، مع وجوب التخلص من الإيرادات المحرمة. وبالخلاصة، فإن الاكتتاب بكل من: أسهم شركة شمال الزور للطاقة وشركة بورصة الكويت للأوراق المالية لا غبار عليه من الناحية الشرعية، مالم ينص النظام الأساسي لكلتا الشركتين على هدف محرم، وطالما أن النشاط الأساسي لكلتا الشركتين مباح. أما بخصوص تداول أسهم الشركتين بعد الإدراج، فيجري عليه المعيار الشرعي رقم (21) من المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI)، وذلك في حال عدم وجود جهاز رقابة شرعية على الشركتين، وبالتالي احتمالية التعامل بالقروض ذات الفوائد.

جريدة الراي